خميسٌ بلا مقال ... فهذا الخميس تبع ثلاثاءً اسود ..
اكتسب سواده من حمرة دماء اخواتنا , ابائنا , أولادنا , اصحابنا .. قليل منا من
فقد قريب له بأحداث كتلك التي نعيشها نظراً لكون تعداد بلدنا يفوق الخمس والثمانون
مليون نفس .. فكلمة شهيد لم نعتد عليها الا في كتب التاريخ أو عند ذكر اسم أحد
الشوارع التي حملت اسماء شهداءً .. أكثرنا لم يسمع عنهم الا اسمائهم .. ولكن لسبب
ما اراده الله ولا نعلمه الى الأن أصبح منا من بدأ اسمه بـــ" الشهيد "
! .. حتى نبتعد عن اشكالية بعضهم في وصف من ماتوا بتلك الاحداث بشهداء فدعونا نتفق
على ان معنى كلمة شهيد في المعجم العربي هو: مَنْ
يفدي روحه في سبيل عقيدته أو وطنه .. اما احتساب الاجر فهو عند الله ولا يعلم احد
باحتساب الشهادة عند الله لأياً كان من مات الا هو.. يبدأ الأمر بمكالمة هاتفية تستقبلها
والدة احدهم من مجهول ليسأل ان كان فلاناً قريباً لهم ؟ فيأتي رد الام بأن المذكور
هو ابنها ! .. ينتقل المشهد الى المستشفى التي تم التحفظ بها على ابن تلك الأم ..
تتوقف الحياة لدقائق لأفاقة الام من الاغماء .. تتمنى هي الا تفوق .. تتمنى اللحاق
بأنها .. تتمنى ولو كلمة واحدة منه .. تتمنى ان يسامحها رغم انها كانت امنيته هو
حين مات ولكنه كان بعيداً عنها .. تفيق الأم ويدوي صوتها مالئاً المكان باسم ابنها
.. تلقي بنفسها على جسد ابنها المغطى بالدم .. تدنو من جبهته تقبلها ولكن ليس
كقبلة كل صباح .. انها قبلة الوداع .. يختلط دمعها بدمه .. يختلط صوت نحيبها بصوت
قرأن تتلوه اخته الصغيرة في ركن الغرفة.. يحاول اخوه الأكبران يسند الام فلم تعد
قادرة على الوقوف .. يصبرها .. يذكرها بأن مسواه الجنه .. يأتي الاهل والاصدقاء
تباعاً .. يعلو صوت النبيح والأنين ممن لا يستوعبون ان من اكل معهم البارحة من شرب
معهم الشاي من لعب معهم صغاراً من احبهم وأحبوه فارقهم بلا عوده .. فكل واحداً
منهم كان يستشعر انه أقربُ من خلق الله الى قلبه .. ينتقل المشهد الى " مشرحة
زينهم " ولا زال العويل مستمراً .. تتسلم العائلة جثة ابنهم .. يحملونه
بآهاتهم الى مثواه الأخير .. تنتقل المعاناة الى بيوتهم معهم فهاهو سريره هاهي
كتبه هاهو دفترة مفتوحاً على أخر ما كتب " أكتب بدمي حياة تانيه لأوطاني
" .. صوت هاتفه لم يتوقف عن الضجيج ..على شاشته ظهر اسم فتاة كان يحلم ان
يتزوجها.. فصارت تحلم هي بالموت لملاقاته .. في ركن البيت امه التي لا تزال تنتظر
مجيئه .. لا تزال تنتظر قبلة كانت تطبع على كفها حين يلاقيها .. تظنها صامته ..
ولكن بداخلها بركان من الذكريات بركان من الغضب بركان من التساؤلات تتلخص في سؤال واحد .. " هو عمل ايه بس
عشان تاخدوه مني ؟ " .. صمتها فقط تكسره دمعة تنزل على خديها .. لا يعلم مصدر
تلك الدمعة الا الله .. أهي عينيها التي لن ترى فلذتها بعد اليوم ؟ ام هو قلبها
الذي فقد اغلى ما يملك بهذه الدنيا ؟ .. ام حزن يديها التي اصبحت لا تقوى على
الحراك بعد فراقه ؟! ... بالجانب الاخر فتاةُ بالعاشرة من عمرها تمسك بتلك الدمية
الوحيدة التي تملكها والتي كانت هدية من اخوها قبل رحيله بأسبوع واحد حين احتفل
بعيد ميلادها .. بل وكان الوحيد الذي تذكره من اهل بيتها .. صوت انينها لم يتوقف
منذ فراقه .. تنام فلا ترى غيره فتصحو وهي تنطق باسمه .. فتتذكر وصفه بشهيد فتعود
الى ما نامت عليه من أنين .. بصالة البيت يجلس اخوه الكبير برباطة جائشة المعهوده
يستقبل المعزيين فهم كثر .. وكأن جميع المصريين يعرفوه .. وتحت جأشة يرقد بركاناً
من الألم فهو يتذكر ذاك الاخ منذ تلك اللحظة التي فارقهم فيها ابوهم حين كان اخوه
لا يزال صغيراً وكانت الاقدار ان يكون الاخ الاكبر هو من يربي ويحمل هم هؤلاء
الصغار.. ولكن اصعب ما بداخله هو " مين قتل أخويا ؟ " " مين يجيب
حقه ؟ " يـــــــارب .. المشهد لم ينتهي ولن ينتهي عند عزاء لأسبوع و بضع
ايام .. فخلال عام واحد ستجتمع هذه العائلة ثلاث مرات يويماً على طاولة الطعام ..
فبحسبة بسيطة .. بضرب عدد ايام السنه في ثلاث وجبات يومية يكون الناتج خمس وتسعون
وألف وجبة .. خمس وتسعون وألف نظرة الى كرسيه على الطاولة والذي لم يجلس عليه احد
مذ فراقه ..
الى متى سنعيش مجانية القتل ؟! لمصلحة من نقتل ؟! أي دين هذا ؟! اي بشر هؤلاء ؟!
الى متى سنعيش مجانية القتل ؟! لمصلحة من نقتل ؟! أي دين هذا ؟! اي بشر هؤلاء ؟!
ما تحسبوش الشهيد اداكوا بس حياة"
ما موتوش هو وحده اللى برصاصة رماه
ده طخ ابنه اللى لسه ما اتولدش معاه
وطخ أولاد ولاده لآخر الأيام
موت معاه بشرية كاملة محتملة
عِدّوا كان فيها كام شاعر وكام رسام
وكام طبيب عبقرى بين الأطبا إمام
وفيلسوف له على حكم الليالى كلام
وبنت نظرتها تشفى القلب من داؤه
فى شعب كامل رحل ما عرفش أسماؤه
في جسم كل شهيد فيه مصر مكتملة
فخلوا مصر اللى فاضلة تعيش كما شاؤوا"
الأبيات
من قصيدة " يا أهل مصر " للشاعر تميم البرغوثي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق